في زمن أصبحت فيه الأصوات أعلى من الحقائق، تحول الجميع إلى محللين وخبراء في شتى المجالات. لم يعد الأمر مقتصرًا على وسائل التواصل الاجتماعي فقط، بل امتد ليشمل كافة مجالات حياتنا اليومية. في العمل، في المواصلات، في النوادي، في المقاهي، في عيادات الأطباء، وحتى في المدارس. أصبح الجميع يقيّم، ينتقد، ويصدر الأحكام كما لو كان يملك الحقيقة المطلقة. هنسكت أمتى
على منصات التواصل الاجتماعي، تجد شخصًا يُفتي في الطب دون أن يمتلك أي دراية به، وآخر يحدد مصير الاقتصاد دون أي خبرة، وثالث يحلل السياسة بعبارات سطحية وغير مدروسة. وفي المدارس، أصبح الجميع خبراء في التربية والتعليم، ينتقدون المناهج والمعلمين وكأنهم الأكثر دراية بالعملية التعليمية. في الرياضة، يظهر من ينصب نفسه مدربًا، يحلل كل مباراة ويفرض رأيه على اللاعبين والمدربين. وفي الفن، يعتقد الجميع أنهم نقاد سينمائيون وموسيقيون، يحددون ما يستحق التقدير وما لا يستحق، حتى وإن كانت معرفتهم بأساسيات الفن محدودة أو غير موجودة.
الكل يناقش، يجادل، ويصر على رأيه، حتى لو كان مبنيًا على معلومات خاطئة أو مجرد عناوين مرسلة. والأسوأ من ذلك أن النقد لم يعد مجرد إبداء رأي، بل تحول إلى هجوم، سخرية، وأحيانًا سباب، وكأن النقاش لا يكتمل إلا بالإهانة.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا إذًا توجد التخصصات؟ لماذا يمضي الأطباء والمهندسون والعلماء سنوات طويلة في الدراسة والتدريب؟ لماذا نحتاج إلى معلمين مؤهلين ورياضيين محترفين وفنانين دارسين إذا كان بإمكان أي شخص التحدث في أي موضوع وفرض رأيه وكأنه الخبير الوحيد؟
المشكلة لم تعد تكمن في التعبير عن الرأي، بل في تحول وسائل التواصل وكل ساحات الحوار إلى منصات فوضوية. حيث يتحدث الجميع دون استماع، وينتقدون دون معرفة، ويحكمون دون دليل. النقد البناء أصبح استثناء، بينما الاستعراض أصبح هو الهدف. وكأن إثبات الذات لا يتم إلا عبر إسكات الآخرين.
قبل أن تكتب تعليقًا أو تشارك رأيًا، اسأل نفسك: هل أملك المعرفة الكافية؟ هل أضيف قيمة أم أكرر كلامًا بلا دليل؟ هل نقدي بناء أم مجرد هجوم بلا فائدة؟
استمع أولًا… تعلَّم… افهم… ثم تكلَّم إذا كان هناك حاجة للكلام.
